فصل: النوع السابع عشر: في التكرير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع السابع عشر: في التكرير:

قد تقدم الكلام في صدر كتابي هذا على تكرار الحروف، وما أشبه ذلك مما يختلط بهذا النوع الذي هو تكرار المعاني والألفاظ.
واعلم أن هذا النوع من مقاتل علم البيان، وهو دقيق المأخذ وحده هو: دلالة اللفظ على المعنى مرددا، وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة، وبالتطويل أخرى، وقد تقدم الكلام على الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة في باب الإطناب، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا، وأما التكرير فقد عرفتكه.
وهو ينقسم قسمين: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى، والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ.
فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى فكقولك لمن تستدعيه أسرع أسرع، ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ** لمثلي عند مثلهم مقام

وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك: أطعني ولا تعصني، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية.
وكل من هذين القسمين ينقسم إلى مفيد وغير مفيد، ولا أعني بالمفيد هاهنا ما يعنيه النحاة، فإنه عندهم عبارة عن اللفظ المركب، إما من الاسم مع الاسم، بشرط أن يكون للأول بالثاني علاقة معنى يسع مكلفا جهله، وإما من الاسم مع الفعل التام المتصرف، على هذا الشرط أيضا، وإما من حرف النداء مع الاسم، فهذا هو المفيد عند النحاة، وأنا لم أقصد ذلك هاهنا، بل مقصودي من المفيد أن يأتي لمعنى، وغير المفيد أن يأتي لغير معنى.
واعلم أن المفيد من التكرير يأتي في الكلام تأكيدا له، وتشييدا من أمره، وإنما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك، إما مبالغة في مدحه أو في ذمه، أو غير ذلك، ولا يأتي إلا في أحد طرفي الشيء المقصود بالذكر، والوسط عار منه، لأن أحد الطرفين هو المقصود بالمبالغة إما بمدح أو ذم أو غيرهما، والوسط ليس من شرط المبالغة، وغير المفيد لا يأتي في الكلام إلا عيا وخطلا من غير حاجة إليه.

.التكرير في اللفظ والمعنى:

فأما الأول وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى فإنه ينقسم إلى ضربين: مفيد وغير مفيد.
فالأول المفيد وهو نوعان: الأول: إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد، والمقصود به غرضان مختلفان، كقوله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} هذا تكرير في اللفظ والمعنى، وهو قوله: {يحق الحق} و{ليحق الحق} إنما جيء به هاهنا لاختلاف المراد وذاك أن الأول تمييز بين الإرادتين والثاني بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها، وأنه ما نصرهم وخذل أولئك إلا لهذا الغرض.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه} فكرر قوله تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين} وقوله: {قل الله أعبد مخلصا له ديني} والمراد به غرضان مختلفان، وذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة والإخلاص في دينه، والثاني بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة في الثاني، وأخره في الأول لأن الكلام أولاً وقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل من أجله، ولذلك رتب عليه: {فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
وعليه ورد قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله} وظاهر الأول والثاني أنهما سواء في المعنى، وليس كذلك، لأن الثاني فيه تخصيص غير موجود في الأول، ألا ترى أنا إذا قلنا: زيد الأفضل، وقلنا: الأفضل زيد، كان في الثاني تخصيص له بالفضل، وهذا التخصيص لا يوجد في القول الأول الذي هو زيد الأفضل، ويجوز أن تبدل صفة الفضل فيه بغيرها أو بضدها، فيقال: زيد الأجمل، أو زيد الأنقص، وإذا قلنا: الأفضل زيد، وجب تخصيصه بالفضل، ولم يمكن تغييره عنه، وكذلك يجري الحكم في هذه الآية، فإن الله تعالى قال: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} ثم قال: {لم يذهبوا حتى يستأذنوه} فوصفهم بالامتناع عن الذهاب إلا بإذنه، وهذه الصفة يجوز أن تبدل بغيرها من الصفات، كما قال تعالى في موضع آخر: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} فجاء بصفة غير تلك الصفة، ولما قال: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله} وجب تخصيصهم بذلك الوصف دون غيره، وهذا موضع حسن في تكرير المعاني.
ومما يعد من هذا الباب قوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين} وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك، فإن معنى قوله: {لا أعبد} يعني في المستقبل: من عبادة آلهتكم، وإلا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي، {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني أنه لم يعهد مني عبادة صنع في الجاهلية في وقت ما فكيف يرجى ذلك مني في الإسلام؟ {ولا أنتم عابدون} في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن.
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} فكرر: {الرحمن الرحيم} مرتين والفائدة في ذلك أن الأول يتعلق بأمر الدنيا، والثاني يتعلق بأمر الآخرة، فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه خلق كلا منهم على أكمل صفة وأعطاه جميع ما يحتاج إليه، حتى البقة والذباب، وقد يرجع إلى غير الخلق كإدرار الأرزاق وغيرها، وأما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية في يوم القيامة الذي هو يوم الدين.
وبالجملة فاعلم أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره، فإن رأيت شيئا منه تكرر من حيث الظاهر فأنعم نظرك فيه، فانظر إلى سوابقه ولواحقه، لتنكشف لك الفائدة منه.
ومما ورد في القرآن الكريم مكررا قوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون} فكرر قوله: {فاتقوا الله وأطيعون} ليؤكده عندهم ويقرره في نفوسهم، مع تعليق كل واحد منهما لعلة، فجعل الأول كونه أمينا فيما بينهم، وجعل علة الثاني حسم طمعه عنهم، وخلوه من الإعراض فيما يدعوهم إليه.
من هذا النحو قوله تعالى: {كذبت قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} وإنما كرر تكذيبهم هاهنا لأنه لم يأت به على أسلوب واحد، بل تنوع فيه بضروب من الصنعة، فذ كره أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنوع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً وبالاستثناء ثانياً وما في الاستثناء من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق العذاب وأبلغه.
وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى حسن غامض، وبه تعريف موقع التكرير، والفرق بينه وبين غيره، فافهمه إن شاء الله تعالى.
الفرع الثاني من الضرب الأول: إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمراد به غرض واحد، كقوله تعالى: {فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر} والتكرير دلالة على التعجب من تقديره وإصابته الغرض وهذا كما يقال:
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي

وهذا مبالغة في الدعاء لها بالسلامة، وكل هذا يجاء به لتقرير المعنى المراد وإثباته.
وعليه ورد الحديث النبوي، وذاك أن النبي قال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يطلق علي ابنتي وينكح ابنتهم» فقوله: «لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن» من التكرير الذي هو أشد موقعا من الإيجاز، لانصباب العناية إلى تأكيد القول في منع علي رضي الله عنه من التزوج بابنة أبي جهل بن هشام.
وهذا مثل قوله تعالى: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} ومن أجل ذلك نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لأن قولنا: لا إله إلا الله مثل قولنا وحده لا شريك له وهما في المعنى سواء، وإنما كررنا القول فيه لتقرير المعنى وإثباته، وذاك لأن من الناس من يخالف فيه كالنصارى والثنوية، والتكرير في مثل هذا المقام أبلغ من الإيجاز، وأحسن، وأسد موقعا.
ومما جاء في مثل هذا قوله تعالى: {والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا ترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء نم عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبله لمبلسين} فقوله: {من قبله} بعد قوله: {من قبل} فيه دلالة على أن عهدهم بالمطر قد ببعد وتطاول، فاستحكم بأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
وعلى ذلك ورد قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق} فقوله: {لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} يقوم مقام قوله: {ولا يدينون دين الحق} لأن من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين الحق، وإنما كرر هاهنا للخطب على المأمور بقتالهم، والتسجيل عليهم، بالذم، ورجمهم بالعظائم، ليكون ذلك أدعى لوجوب قتالهم وحربهم، وقد قلنا: إن التكرير إنما يأتي لما أهم من الأمر الذي بصرف العناية إليه يثبت ويقرر.
كذلك ورد قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} فتكرير لفظه: {أولئك} من هذا الباب الذي أشرنا إليه، لمكان شدة النكير، وإغلاظ العقاب بسبب إنكارهم البعث.
وعلى هذا ورد قوله تعالى: {أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون} فإنه إنما تكررت لفظة: {هم} للإيذان بتحقيق الخسار، والأصل فيها وهم في الآخرة الأخسرون، لكن لما أريد تأكيد ذلك جيء بتكرير هذه اللفظة المشار إليها.
كذلك قوله تعالى: {فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها} أمثال هذا في القرآن كثير.
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة القصص: {فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس} فقوله تعالى: {فلما أن أراد أن يبطش} بتكرير أن مرتين دليل على أن موسى عليه السلام لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول، بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه، فعبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: {فلما أراد أن يبطش} وجرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية، فقال إن أن الأولى زائدة، ولو حذفت فقيل لما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه} وقد اتفق النحاة على أن أن الواردة بعد لما وقبل الفعل زائدة، فقلت له: النحاة لا فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة، ولا عندهم معرفة بأسرارهما، من حيث إنهم نحاة، ولا شك أنهم وجدوا أن ترد بعد لما وقبل الفعل في القرآن الكريم وفي كلام فصحاء العرب فظنوا أن المعنى بوجودها كالمعنى إذا سقطت فقالوا: هذه زائدة، وليس الأمر كذلك، بل إذا وردت لما وورد الفعل بعدها بإسقاط أن دل ذلك على الفور، وإذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على أن الفعل كان على الفور، وإنما كان فيه تراخ وإبطاء.
وبيان ذلك وجهين: أحدهما: أني أقول: فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلة على المعاني، فإذا أوردت لفظة من الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة فالأولى أن تحمل تلك اللفظة على معنى، فإن لم يوجد لها معنى بعد التنقيب والتنقير والبحث الطويل قيل: هذه زائدة دخولها على الكلام كخروجها منه، ولما نظرت أنا في هذه الآية وجدت لفظة أن الواردة بعد لما وقبل الفعل دالة على معنى فكيف يسوغ أن يقال: إنها زائدة.
فإن قيل: إنها كانت دالة على معنى فيجوز أن تكون دالة على غير ما أشرت أنت إليه.
قلت في الجواب: إذا ثبت أنها دالة على معنى فالذي أشرت إليه معنى مناسب واقع في موقعه، وإذا كان مناسبا واقعا في موقعه فقد حصل المراد منه، ودل الدليل حينئذ أنها ليست زائدة.
الوجه الآخر: أن هذه اللفظة لو كانت زائدة لكان ذلك قدحا في كلام الله تعالى، وذاك أنه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها، والمعنى يتم بدونها، وحينئذ لا يكون كلامه معجزا، إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه، وإن التطويل عيب في الكلام، فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز؟ هذا محال.
وأما قوله تعالى: {فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه} فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته منذ ألقوه في الجب وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم إبطاء بعيد، وقد اختلف في طول تلك المدة، ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لما وقبل الفعل، بل كانت تكون الآية فلما جاء البشير ألقاه على وجهه.
وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة، لأنها ليست من شأنهم.
واعلم أن من هذا النوع قسما يكون المعنى فيه مضافا إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، وذلك يأتي في الألفاظ المترادفة، وقد ورد في القرآن الكريم، واستعمل في فصيح الكلام.
فمنه قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم} والرجز هو العذاب.
وعليه ورد قول أبي تمام:
نهوض بثقل العبء مضطلع به ** وإن عظمت فيه الخطوب وجلت

والثقل هو العبء، والعبء: هو الثقل، وكذلك ورد قول البحتري:
ويوم تثنت للوداع وسلمت ** بعينين موصول بلحظهما السحر

توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ** كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر

فإن الكرى هو النوم.
وربما أشكل هذا الموضع على كثير من متعاطي هذه الصناعة وظنوه مما لا فائدة فيه وليس كذلك، بل الفائدة فيه هي التأكيد للمعنى المقصود، والمبالغة فيه.
أما الآية فالمراد بقوله تعالى: {عذاب من رجز} أي: عذاب مضاعف من عذاب.
وأما بيت أبي تمام تضمن المبالغة في وصف الممدوح بحمله للأثقال.
وأما بيت البحتري فإنه أراد أن يشبه طرفها لفتوره بالنائم، فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف إليه تأكيدا له وزيادة في بيانه.
وهذا الموضع لم ينبه عليه أحد سواي.
ولربما أدخل في التكوير من هذا النوع ما ليس منه، وهو موضع لي ينبه عليه أيضاً أحد سواي.
فمنه قوله تعالى: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} فلما تكرر: {إن ربك} مرتين علم أن ذلك أدل على المغفرة.
وكذلك قوله تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} ومثل قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} وهذه الآيات يظن أنها من باب التكرير، وليست كذلك، وقد أنعمت نظري فيها فرأيتها خارجة عن حكم التكرير، وذاك أنه طال الفصل من الكلام، وكان أوله يفتقر إلى تمام لا يفهم إلا به، فالأولى من باب الفصاحة أن يعاد لفظ الأول مرة ثانية، ليكون مقارنا لتمام الفصل، كي لا يجيء الكلام منثورا، لا سيما في إن وأخواتها، فإذا وردت إن وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام فإعادة إن أحسن في حكم البلاغة والفصاحة، كالذي تقدم من هذه الأبيات.
وعليه ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة:
أسجنا وقيدا واشتياقا وغربة ** ونأي حبيب إن ذا لعظيم

وإن امرأ دامت مواثيق عهده ** على مثل هذا إنه لكريم

فإنه لما طال الكلام بين اسم إن وخبرها أعيدت إن مرة ثانية، لأن تقدير الكلام، وإن آمرا دامت مواثيق عهده على مثل هذا لكريم، لكن بين الاسم والخبر مدى طويل، فإذا لم تعد إن مرة ثانية لم يأت على الكلام بهجة ورونق، وهذا لا ينتبه لاستعماله إلا الفصحاء إما طبعا وإما علما.
وكذلك يجري الأمر إذا كان خبر إن عاملا في معمول يطول ذكره، فإن إعادة الخبر ثانية هو الأحسن.
وعلى هذا جاء قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} فلما قال: {إني رأيت} ثم طال الفصل كان الأحسن أن يعيد الرؤية فيقول: {رأيتهم لي ساجدين} وكذلك جاءت الآية المذكورة هاهنا قبل هذه، وهي قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} فإنه لما طال الفصل أعاد قوله: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} فاعلم ذلك وضع يدك عليه وكذلك الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} وكذلك الآية الأخرى وهي: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} ومن باب التكرير في اللفظ والمعنى الدال على معنى واحد قوله تعالى: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} فإنه إنما كرر نداء قومه هاهنا لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة، ولأنهم قومه وعشيرته، وهم فيما يوبقهم من الضلال، وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم، ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك ألا يتهموه، فإن سرورهم سروره وغمهم غمه، وأن ينزلوا على نصيحته لهم، وهذا التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز وأسد موقعا من الاختصار، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
وعلى نحو منه جاء قوله تعالى في سورة القمر: {فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} فإنه قد تكرر ذلك في السورة كثيرا، وفائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من الأولين ادكارا وإيقاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث إليه، وأن تقرع لهم العصا مرات لئلا يغلبهم السهو وتستولي عليهم الغفلة.
وهكذا حكم التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن: {فبآي آلاء ربكما تكذبان} وذلك عند كل نعمة عددها على عباده.
أمثال هذا في القرآن الكريم كثير.
ومما ورد من هذا النوع شعرا أقوال بعض شعراء الحماسة:؟ إلى معدن العز المؤثل والندى هناك هناك الفضل والخلق الجزل فقوله: هناك هناك من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز، لأنه في معرض مدح، فهو يقرر في نفس السامع ما عند الممدوح من هذه الأوصاف المذكورة مشيرا إليها، كأنه قال: أدلكم على معدن كذا وكذا ومقره ومفاده.
وكذلك ورد قول المساور بن هند:
جزى الله عني غالبا من عشيرة ** إذا حدثان الدهر نابت نوائبه

فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت ** علي وموج قد علتني غواربه

فصدر البيت الثاني وعجزه يدلان على معنى واحد، لأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من فوقه، وإنما سوغ ذلك لأنه مقام مدح وإطراء ألا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند دثان دهره في التكرير، وفي قبالته لو كان القائل هاجيا، فإن الهجاء في هذا كالمدح، والتكرير إنما يحسن في كلا الطرفين، لا في الوسط.
واعلم أنه إذا وردت إن المكسورة المخففة بعد ما كانت بمعناها سواء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام} فإن وما بمعنى واحد، وإذا أوردت من بعد ما كانت من باب التكرير كقولنا: ما إن يكون كذا وكذا: أي ما يكونه كذا وكذا، وإذا وردت في الكلام فإنما ترد في مثل ما أشرنا إليه من التكرير، فإن استعملت في غير ما يكون منها لفائدة ينتجها تكريرها كان استعمالها لغوا لا فائدة فيه.
وقد زعم قوم من مدعي هذه الصناعة أن أبا الطيب المتنبي أتى في هذا البيت بتكرير لا حاجة به إليه، وهو قوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن ** ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن

وليس في هذا البيت من تكرير، فإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا، أي أنه عريق النسب في هذا الوصف.
وقد ورد في الحديث النبوي مثل ذلك، كقول النبي في وصف يوسف الصديق عليه السلام: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» ولقد فاوضني في هذا البيت المشار إليه بعض علماء الأدب، وأخذ الطعن فيه من جهة تكراره، فوقفته على مواضع الصواب منه، وعرفته أنه كالخبر النبوي من جهة المعنى سواء بسواء، لكن لفظه ليس بمرضي على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه، فإن الألفاظ إذا كانت حسانا في حال انفرادها فإن استعمالها في حال التركيب يزيدها حسنا على حسنها، أو يذهب ذلك الحسن عنها، وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى من الصناعة اللفظية، ولو تهيأ لأبي الطيب المتنبي أن يبدل لفظة العارض بلفظة السحاب، أو ما يجري مجراها، لكان أحسن وكذلك لفظة الهتن، فإنها ليست بمرضية في هذا الموضع على هذا الوجه، ولفظة العارض، وإن كانت قد وردت في القرآن الكريم وهي لفظة حسنة فالفرق بين ورودها في القرآن الكريم ووردوها في هذا البيت الشعري ظاهر، وقد تقدم الكلام على مثلها من آية وبيت لأبي الطيب أيضا، وهو في المقالة اللفظية عند الكلام على الألفاظ المفردة فليؤخذ من هناك، وكثيرا ما يقع الجهال في مثل هذه المواضع وهم الذين قيل فيهم:
وكذا كل أخي خذلقة ** ما مشى في يابس إلا زلق

فترى أحدهم قد جمع نفسه وظن على جهله أنه عالم، فيسرع في وصف كلام بالإيجاز وكلام بالتطويل أو بالتكرير، وإذا طولب بأن يبدي سببا لما ذكره لم يوجد عنده من القول شيء إلا تحكما محضا صادرا عن جهل محض.
الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى، وهو غير المفيد، فمن ذلك قول مروان الأصغر:
سقى الله نجدا والسلام على نجد ** ويا حبذا نجد على النأي والبعد

نظرت إلى نجد وبغداد دونها ** لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد

وهذا من العي الضعيف، فإنه كرر ذكر نجد في البيت الأول ثلاثا، وفي البيت الثاني ثلاثا، ومراده في الأول الثناء على نجد، وفي الثاني أنه تلفت إليها ناظرا من بغداد، وذلك مرمى بعيد، وهذا المعنى لا يحتاج إلى مثل هذا التكرير، أما البيت الأول فيحمل على الجائز من التكرير، لأنه مقام تشوق وتحرق وموجده بفراق نجد، ولما كان كذلك أجيز فيه التكرير، على أنه قد كان يمكنه أن يصوغ هذا المعنى الوارد في البيتين معا من غير أن يأتي بهذا التكرير المتتابع ست مرات.
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي النواس:؟ أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ويوما له الترحل خامس ومراده من ذلك أنهم أقاموا بها أربعة أيام، ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز وهي:
وذار ندامى عطلوها وأدلجوا

ومن هذا الباب أيضاً ما أوردناه في صدر هذا النوع وهو قول أبي الطيب المتنبي:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ** ليمثلي عند مثلهم مقام

فهذا هو التكرير الفاحش الذي يؤثر في الكلام نقصا، ألا ترى أنه يقول: لم أر مثل جيراني في سوء الجوار، ولا مثلي في مصابرتهم ومقامي عندهم، إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين.
وعلى نحو من ذلك جاء قوله أيضا:
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشى ** قلاقل عيس كلهن قلاقل